لقاء الشيخ محمود شاكر رحمه الله بالإخوان – موثقًا من كتبهم –

قال د.عبد العزيز كامل في كتابه ( نهر الحياة ) ص71- 75 :

” كان الاستاذ محمود محمد شاكر ، والاستاذ سيد قطب! من الشخصيات التي اتجه الإخوان إلى الإستفادة من علمهما بعد خروجهم من الإعتقال في اواخر عام 1949.

وتولى د. محمد رشاد رفيق مهمة الاتصال ، خاصة بالأستاذ شاكر بحكم جوار السكن ، ومعرفة رشاد لعدد غير قليل من كبار المفكرين. وكان ، ولا يزال في تبعي شيء من الإنطواء يعقد بي عن التعرف إلى الأخرين.

وكان رشاد هو الذي عرفني بمحمود شاكر، وهو الذي ذهب معي إلى مجلس الاستاذ عباس محمود العقاد صباح يوم جمعة حتى موعد الصلاة.

والاستاذ شاكر علم من أعلام فكرنا العربي المعاصر، له قرأته العريضة والعميقة، وإنتاجه الظبي، ونظراته النافذة .. وهو من أسرة ورثت حب الاسلام والعمل العلمي له، كان والده الشيخ محمد شاكر وكيلاً للأزهر الشريف، وعمل فترة في السودان ، وأخوه الأكبر هو العالم الجليل الشيخ أحمد محمد شاكر (المحدث) ، ولمحمود إنتاجه الاسلامي، المشترك والخاص، تحقيقاً وتأليفاً.

وفي محمود غيرة على الإسلام واللغة العربية شديدة دافقة، تشتد أحياناً كفيضان النهر في سعيد مصر حيث نشأ ، فلا تعترف بجسور ولا سدود ، وتسري في عروقه من دم يصل به إلى بيت النبوى ،، وله خطه الفكري الذي يفرضه على حياته ، ويعيش به ، مدافعاً عنه ، لا أقول كأنه في معركة ، فهو في معركة فعلاً مرفوعة الأعلام، أسلحتها كل ما في قلبه من طاقة وإيمان، وما في عقله من طاعة وفكر، وما في لسانه من طاعة تعبير، قادرة على أن تكون عبيراً أو رجوماً.

وقضية اللغة العربية كمحور والحضارة الإسلامية كمدار .. قضية جوهرية عنده.

“ألا انما العربية اللسان” ، والله تعالى: “خلق الإنسان علمه البيان”

وقد قضيت أياماً وأياماً أسمع من محمود شاكر..

كان وقتئذ يسكن في شارع السباق في مصر الجديدة، في سكن مرتفع تطل منه على الخضرة القاسية الممتدة والبيت كله كتب لا تكاد ترى منها الحوائط في حجرة المعيشة وحجرة المكتب على يسار الداخل، وحجرة الطعام المجاورة، وجزء من حجرة النوم المقابلة، كتب من الأرض إلى السقف أمهات الكتب العربية، لغة وأدباً وتاريخاً.. كتب المستشرقين، كتب عن الإستعمار والتاريخ الاوروبي، مجموعات من المجلات. ولكن تطس وراء هذا نظاماً دقيقاً صارماً، فلا تكاد يده تخطئ مرجعاً، وإذا فتحته فلا تكاد تقلب إلا أقل الصفحات حتى تصل إلى بغيتها، كان مدار حديثنا عن الوجود الإسلامي، ومكانة اللسان العربي فيه،، ولم يكن محمود إتصل “بعمق” بالإخوان ، والنماذج التي اتصل بها حتى ذلك الوقت كانت طيبة ومثقفة ، وتريد المزيد من العلم بجد وإستمرار ، ولقد كتب الله للدكتور رشاد أن يتابع رحلته العلمية الطويلة تحقيقاً لتراث الإمام إبن تيمية ونشراً علمياً له ، مع دائرة أوسع عمل فيها في مجال الفلسفة الإسلامية في بريطانيا ومصر والسعودية.

وكان من تفكيرنا أن يحضر عدد من شباب الإخوان جلسات علمية بعدها لمحمود شاكر ، وبعضها الآخر لسيد قطب وبعض المفكرين الآخرين.

وحاولنا أن نمهد لهذا بزياره محمود لبعض معسكرات الإخوان الرياضية الثقافية ، وأذكر منها وقتئذ معسكراً في حلوان .. وجاء محمود كأنما يكتشف عالماً غريباً .. أعجب بنشاطهم وأخلاقهم وانتظامهم وصلاتهم وعندما دعي إلى الحديث أطال النظر اليهم ، ولا زال هذا المنظر عالقاً بذهني …

كان جالساً على الأرض محتبياً ، يلبس قميصاً أبيض وسروالاً صدفياً ، جمع شعره بمنديل أبيض ، لحيته تغطي الجانب الأكبر من وجهه ، عيناه تبرقان تحت منظاره ، هو ينظر وهم ينتظرون ، ثم إنفجر ضاحكاً ..

ونظر بعضهم إلى بعض ، وسرت الإبتسامة إلى وجوههم مختلطة بالدهشة ،، ما هذا الإنسان الغريب الذي يدعى إلى الحديث في الدين فينفجر ضاحكاً في وجوههم بعد صمت طويل ؟!!

وقطع دهشتهم بقوله ؛ أنتم تذكروني بأمرين ؛ صلابة أصحاب العقائد ، والمحكوم عليهم بالسجن المؤبد من مجرمي ليمان طرة .. رجال العصابات في الصعيد عندنا ، أولاد الليل الذين لا يعرفون الخوف. ما رأيت نظراتكم هذه إلا عند أولاد الليل في الصعيد ،،

هكذا تبدأ معهم يا محمود ؟!

وبدأ يشرق موقف هؤلاء من السلطة الحاكمة ، ومن العائلات الباغية ، وعطفهم على الفقراء ، الشهامة التي بينهم ، وأن هذه بقية بقيت من أخلاق الرجال طردتها الحياة الرخوة إلي الجبال ، فعاشت في صراع مع المجتمع ، والذي يأخذ طريق التغيير ليس السجن منه ببعيد.

ثم عاد إلي الحديث عن اللغة العربية ،، وكان على محمود أن يبدأ بالعرب قبل الإسلام بإعتبارهم المعدن الذي اختاره الله ليقوم فيه خاتم الأديان ، وليبعث فيه خاتم النبيين.

وفرق كبير بين هذا التناول وبين إعتبار ما قبل الإسلام مجرد “جاهلية” بالمفهوم الساذج لهذه الكلمة.

وأخذ يدرس لهم عاداً الأولى ، وقوله تعالى: “وأنه أهلك عاداً الأولى” كما درس عادا الثانية التي ذكرها الله في قوله تعالى: “الأم تر كيف فعل ربك بعاد إرم ذات العماد”.

ثم درس لهم ثمود وديارهم ونبيهم “صالحاً” – عليه السلام.

وإنتقل إلي دراسة طسم وجديس والعماليق ووبار وجرهم ، وبعد دراسة العرب العاربة إنتقل إلي دراسة العرب المستعربة : عدنان وقحطان …

وحضرت من هذا درسين ، وكنت أنر إلي شباب الإخوان ، والقليل منهم متقبل لذلك وأكثرهم عنه غير راض.

الموضوع يحتاج إلي حصر ذهن وإلى أصالة ، النفس في الدراسة طويل ، والاستشهادات فوق مستوى الكثير منهم ، الجلسة في ذاتها على الأرض غير مريحة ، طريقة تعاملهم مع محمود وتعامله معهم لم تكن مما الفوا .. فأخذ يضيق بهم ويضيقون به ، وناقشوه في أمر الإخوان ، فوجد في أكثرهم ضحالة فوجئ بها ، وتعصباً لا يستند إلي دليل ، وسرعة إلي النتائج داون تثبت .. وإزداد الجو توتراً .. وبدأ ينفر من بعض تصرفاتهم ، ومن تصرفات الإخوان في الفترة السابقة ، وإشتد الحوار ، وارتفعت حرارته ، ورأوا فيه عدم إحترام لقيادتهم واستخفافاً بجهودهم ، وتخطئة لمنهجهم ، ورأى فيهم صوراً في التعصب والضيق ، والإسراع بالحكم على الناس ولو بالكفر واستباحة الدم ..

وفي يوم إشتد غضبه ، وضاق بهم ذرعاً ، وقالها في عنف باتر :

” الذي يريد أن يتعلم مني ، أو يتناقش معي  فليترك ما في رأسه مع حذائه الذي يخلعه عندما يدخل بيتي”

وكانت هذه الفاصلة بينهم وبينه .. وذهبت إليه بعدها فوجدت فيه الغضب والحزن .. كانت الدموع في عينه وهو يحس الخطر المحدق الذي ينحدر إليه الإخوان ، وخاصة في موضوع “الدم”.

لقد دافعوا أمامه عن الإخوان فيما نسب اليهم من حوادث ، النسف أو القتل  وأعتبروا هؤلأء معتدين على الاسلام ويستحقون القتل ..

-قال- هكذا تحكمون على الناس بالكفر ؟ تحكمون .. من أنتم ؟ وهل يعطي الإسلام أي مسلم الحق في دم أخيه لأي سبب ؟ وأين تذهب أحاديث الرسول -صلى الله عليه وسلم: “لا يزال المسلم في فصحى من دينه ما لم يصب دماً حراماً” .. “وكل المسلم على المسلم حرام ، دمه وعرضه وماله” ” اهـ.

أضف تعليق